نورالدين الغَطّاس يكتب : لماذا لا تبكى التماسيح؟ 

اللوحات للفنان: إسلام الريحانى
اللوحات للفنان: إسلام الريحانى

فَتحَ البابَ الحديدى للمقهى بعنفٍ، اَسْتقبلَهُ النادلُ من خَلفِ الكُونْتْوار بنَحنحةٍ رافضةٍ، تَنفَّسَ الرجلُ الصعداءَ، جَالَ بعينيهِ، يميناً ويساراً، قبلَ أَن يُركِّزَ نظرَهُ على طاولةٍ فى أَقصى ركنٍ من المقهى، كطائرٍ جانحٍ، بصرُهُ حادٌّ، مخالبُهُ قويَّةٌ، مِنقارُهُ معقوفٌ، خطواتُهُ سريعةٌ للغايةِ، اِتَّجهَ نحوَ تلكَ الطاولةٌ، يقاومُ اللَّهثَ الشديدَ، وقفَ قُبالةَ امْرأَةٍ تجلسُ على الطَّرفِ الآخرِ، خلفَها واجهةٌ زجاجيَّةٌ واسعةَ. حولَ الطاولةِ كراسىٍ خشبيَّةٍ صغيرةِ الحجمِ، خشبُها رقيقٌ ودقيقُ الشكلِ، تَردَّدَ شيئاً ما قبلَ أَن يُقرِّرَ الجلوسَ على أَحدِ الكراسى، بدا شكلُه غريباً، كيسٌ من عجينٍ رخوٍ، لا يستقرُّ فى شكلٍ معيَّنٍ، حاولَ وضعَ رجلِه اليُمنى عَلى اليُسرى، فقدَ توازنَهُ، سقطَ على الأَرضِ، أَسرعَ النّادلُ إِليهِ: 
هل أَنتم بخير؟ 
أُوكى، شكراً. 
يمكنُكم الجلوسُ عَلى كرسيَّينِ؟ 
آه، فكرةٌ جيِّدةٌ، شكراً. 
لم يُلفتْ سقوطُه على الأَرضِ انتباهَ المرأَةِ بشكلٍ كبيرٍ، اكتفتْ باسْتدارةِ رأْسِها نحوَهُ، تعالتْ ملامحُ وجهِها الهَرِمِ رغمَ عزِّ شبابِها، أَكياسُ مِن سوادٍ قاتمٍ تحتَ عينيها، شفتُها السفلى زرقاءُ ومنتفخةٌ، فتحتْ فمَها ببطءٍ، لا تستطيعُ الكلام، مخارجُ الحروفِ تخونُها بشدَّة: 
لا أُريدُ الاسْتمرار، أُريدُ استرجاعَ جواز سفرى فقط. 
انحنى نحوَها، ركّزَ مرفقيهِ على الطاولةِ وهو ما زال يلهثُ فقال: 
لماذا تريدينَ التوقفَ عَنِ العملِ؟ 
اِسْترسلتْ للتوِّ قائلةً: 
هذا ليسَ عملاً، هذه جهنّمُ على الأَرض! 
هذه المرَّة، حدَّدَ نظراتِهِ الثاقبةِ فى عينيها الطفوليَّةِ قائلًا: 
اِحْكى لى ما وقعَ؟ 
لا أَعرفُ كيفَ وبما أَبدأُ؟! منذُ يومين لا أَستطيعُ الذهابَ إِلى المرحاضِ، كلُّ أَعضاءِ الجزءِ السُّفلى مِن جَسَدى تُؤْلمُني ، ربطَ الوحشُ يداى خلفَ ظهرى، كتمَ فمى بِرَبْطَةِ عُنقِهِ، قضيتُ معَهُ ليلةً مرعبةً، تحوَّل فيها إِلى حَيوانٍ مُفترسٍ، لا يرحمُ فريستَهُ، غرسَ كلَّ ما يملِكُ مِن أَصابعَ فى داخلى، لم يتوقَّفْ على الرغمِ مِن كلِّ مُحاولاتى للمقاومَةِ، تشنّجَ جسدى، تركَنى مُلقاةً على السَّريرِ، أَنزفُ دَماً وانْصرف... 


لقد اِتَّصلَ بى هذا الصباح واشتكى سوءَ معاملتِكِ له، لم تكونى كالعادةِ، حسبَ كلامِه؟ 
عن أيّةِ «عادة» يتكلَّمُ هذا الوحشُ، أَلَمْ يكفهِ خَنْقى كُلَّ مرَّة؟ 
وَلَّتْ وجهَها إِلى الواجهةِ الزجاجِيَّةِ، تتأَمَّلُ المارَّةَ والحركةَ الدؤوبةَ فى الخارجِ، بدا لها رجلٌ قصيرُ القامةِ، سمينُ البطنِ، شعرُهُ أَشقرُ خفيفٌ، حاجباهُ كثيفانِ متَّصلانِ، لا يَتَنَسَبانِ معَ حجمِ وجهِهِ، يتَّجهُ نحوَها بسرعةٍ.. أَغمضتْ عينيها وأَطلقتْ صرخةً مُدوِّيَةً! 


قبل ربيعِها العشرين بأَسابيع، اضطرتْ لِلهروبِ مِنَ الحربِ والخرابِ، نعم.. الهروبُ وليس الهجرةَ أَو المغادرةَ عن طواعِيَة، لم يكنْ الطريقُ سهلًا إِلى هامبورغ فى أَلمانيا، حيثُ تعيشُ فى حى سَانْتْ بَاوْلِى، تعمل فى رِيبَرْبَان، شارع الضوءِ الأَحمر. خمسُ سنواتٍ، ليلَ نهار، دونَ انقطاعٍ، فى خدمةِ أَصحابِ أَحلامِ الهَوى السريعَ.. بعدَ كلِّ زيارةٍ فى اللَّحمِ والأَلَمِ تريدُ أَن تركضَ إِلى الوَراءِ، لكن فى الركضِ يصعبُ اللقاءُ، تريدُ أَن تلامسَ الضوءَ، لَمسةً، لمستين، لكن فى الضوءِ يصعبُ الاختفاءِ، تريدُ أَن تُوقفَ عقاربَ الساعةِ، تشعرُ بلدغةِ عقربٍ، لدغتين.. تحنُّ إِلى إِحساس قديمٍ على جلدِها. كم مرّةً حاولتْ أَن تفهمَ كيف انزلقتْ فى هذا العمل؟ لكنّها لم تعثرْ على جوابٍ يُريحُها، ما تعرفُهُ أَنَّ كلَّ محاولاتِها للهروبِ من جديدٍ باءَتْ بالفشلِ، تشعرُ أَنّها فى قبضةٍ من حديدٍ، بكاؤُها أَكثرُ من نومِها، لا تملِكُ شيئاً سِوى حُلْمٍ يتيمٍ، أَن يتمَّ اختطافُها إِلى مكانٍ بعيدٍ، حيثُ لا وجودَ للبشرِ، حيثُ تبكى التماسيحُ! 
الرجلُ ذو العينين السّوداوينِ أَعادَ كلامَه بنبرةٍ صارمَةٍ: 
اِسْمعى، أَنتِ هُنا مِن أَجلِ العملِ، لا تُعَقِّدى الأَمورَ... 
لا أُريدُ أَن أَعملَ، ولا مال ولا جاه، أُريدُ فقط جوازَ سفرى. 
دورةُ الزمانِ دونَ هوادة، على زجاجِ واجهةِ المقهى عُلِّقتْ ملصقةٌ بلغاتٍ مختلفة: التركيّة، الأَفغانيّة، الأَلبانيّة، الأَرديّة، الأَلمانيّة والعربيّة، كُتب عليها:
«صورةُ امرأَةٍ مجهولةِ الهُويَّةِ، عُثرَ على بقايا جَسدِها المُشوَّهِ فى قناةِ الرّاين-هيرنه، الرّجاء الاتصال بأَقرب مقرٍّ للشرطةِ للإِدلاءِ بأَى معلومةٍ إضافيَّةٍ، من المُقرَّرِ أَنْ تتكلّفَ الدولةُ بتكاليفِ حرقِ الجثةِ والدفنِ، يتمُّ نقلُ جَرَّةِ الرَّمادِ إِلى موقعِ القبرِ بواسطةِ موظفِ المقبرةِ أو مُتعهدِ دفنِ الموتى أَو أَحدِ أَفرادِ عائلةِ الضحيَّة. عِندَ القبرِ المفتوحِ يمكنُ إِلقاءُ الزهورِ وقراءَةُ رسائلَ التَّعزيَةِ، أَى لقاءٍ بعدَ مراسيمِ الجنازةِ يجبُ التخطيطُ له مُسبقاً. مكتبُ النظامِ العام لمدينةِ هيرنه»    
خرجَ الرجلُ لاهِثاً من المَقهى كَما دخلَ إِليه، لا يعرفُ إِلى أَين يَتَّجِهُ؟